فصل: تفسير الآيات (57- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (57- 67):

{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)}
لما نفي سبحانه الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبع ذلك بذكر من هو أهل للخيرات عاجلاً وآجلاً فوصفهم بصفات أربع: الأولى: قوله: {إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} الإشفاق: الخوف، تقول: أنا مشفق من هذا الأمر، أي خائف. قيل: الإشفاق هو الخشية، فظاهر ما في الآية التكرار.
وأجيب بحمل الخشية على العذاب، أي من عذاب ربهم خائفون، وبه قال الكلبي ومقاتل.
وأجيب أيضاً بحمل الإشفاق على ما هو أثر له: وهو الدوام على الطاعة، أي الذين هم من خشية ربهم دائمون على طاعته.
وأجيب أيضاً بأن الإشفاق كمال الخوف فلا تكرار. وقيل: هو تكرار للتأكيد. والصفة الثانية: قوله: {والذين هُم بئايات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ} قيل: المراد بالآيات: هي التنزيلية. وقيل: هي التكوينية. وقيل: مجموعهما. قيل: وليس المراد بالإيمان بها: هو التصديق بوجودها فقط. فإن ذلك معلوم بالضرورة ولا يوجب المدح، بل المراد: التصديق بكونها دلائل وأن مدلولها حق. والصفة الثالثة: قوله: {والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} أي يتركون الشرك تركاً كلياً ظاهراً وباطناً. والصفة الرابعة: قوله: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} أي يعطون ما أعطوا وقلوبهم خائفة من أجل ذلك الإعطاء يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله، وجملة: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} في محل نصب على الحال، أي والحال أن قلوبهم خائفة أشدّ الخوف. قال الزجاج: قلوبهم خائفة لأنهم إلى ربهم راجعون، وسبب الوجل هو أن يخافوا أن لا يقبل منهم ذلك على الوجه المطلوب، لا مجرّد رجوعهم إليه سبحانه. وقيل: المعنى: أن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والحساب وعلم أن المجازي والمحاسب هو الربّ الذي لا تخفى عليه خافية لم يخل من وجل. وقرأت عائشة وابن عباس والنخعي {يَأْتُونَ مَا أَتَواْ} مقصوراً من الإتيان. قال الفراء: ولو صحت هذه القراءة لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن من العرب من يلزم في الهمز الألف في كل الحالات. قال النحاس: ومعنى هذه القراءة: يعملون ما عملوا.
والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتصفين بهذه الصفات، ومعنى {يسارعون فِي الخيرات}: يبادرون بها. قال الفرّاء والزجاج: ينافسون فيها، وقيل: يسابقون، وقرئ: {يسرعون}. {وَهُمْ لَهَا سابقون} اللام للتقوية، والمعنى: هم سابقون إياها. وقيل: اللام بمعنى إلى، كما في قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5]. أي أوحى إليها، وأنشد سيبويه قول الشاعر:
تجانف عن أهل اليمامة ناقتي ** وما قصدت من أهلها لسوائكا

أي إلى سوائكا. وقيل: المفعول محذوف، والتقدير: وهم سابقون الناس لأجلها. ثم لما انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر لهما حكمين: الأوّل: قوله: {وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} الوسع هو: الطاقة، وقد تقدّم بيان هذا في آخر سورة البقرة.
وفي تفسير الوسع قولان: الأوّل: أنه الطاقة، كما فسره بذلك أهل اللغة. الثاني: أنه دون الطاقة، وبه قال مقاتل والضحاك والكلبي. والمعتزلة قالوا: لأن الوسع إنما سمي وسعاً؛ لأنه يتسع على فاعله فعله ولا يضيق عليه، فمن لم يستطع الجلوس فليوم إيماء، ومن لم يستطع الصوم فليفطر. وهذه الجملة مستأنفة للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدّي إلى نيل الكرامات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حدّ الوسع والطاقة، وأن ذلك عادة الله سبحانه في تكليف عباده، وجملة: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} من تمام ما قبلها من نفي التكليف بما فوق الوسع والمراد بالكتاب: صحائف الأعمال، أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل واحد من المكلفين على ما هي عليه، ومعنى {يَنطِقُ بالحق}: يظهر به الحق المطابق للواقع من دون زيادة ولا نقص، ومثله قوله سبحانه: {هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. وفي هذا تهديد للعصاة وتأنيس للمطيعين من الحيف والظلم. وقيل: المراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، فإنه قد كتب فيه كل شيء. وقيل: المراد بالكتاب: القرآن، والأوّل أولى. وفي هذه الآية تشبيه للكتاب بمن يصدر عنه البيان بالنطق بلسانه، فإن الكتاب يعرب عما فيه كما يعرب الناطق المحق، وقوله: {بالحق}، يتعلق ب {ينطق} أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي ينطق ملتبساً بالحق، وجملة: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} مبينة لما قبلها من تفضله وعدله في جزاء عباده، أي لا يظلمون بنقص ثواب أو بزيادة عقاب، ومثله قوله سبحانه: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، ثم أضرب سبحانه عن هذا فقال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هذا} والضمير للكفار، أي بل قلوب الكفار في غمرة غامرة لها عن هذا الكتاب الذي ينطق بالحق، أو عن الأمر الذي عليه المؤمنون، يقال غمره الماء: إذا غطاه، ونهر غمر: يغطي من دخله، والمراد بها هنا: الغطاء والعمه أو الحيرة والعمى، وقد تقدّم الكلام على الغمرة قريباً {وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك} قال قتادة ومجاهد: أي لهم خطايا لابد أن يعملوها من دون الحق.
وقال الحسن وابن زيد: المعنى: ولهم أعمال رديئة لم يعملوها من دون ما هم عليه لابد أن يعملوها فيدخلون بها النار، فالإشارة بقوله: {ذلك} إما إلى أعمال المؤمنين، أو إلى أعمال الكفار، أي لهم أعمال من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله، أو من دون أعمال الكفار التي تقدّم ذكرها من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن.
قال الواحدي: إجماع المفسرين وأصحاب المعاني على أن هذا إخبار عما سيعملونها من أعمالهم الخبيثة التي كتبت عليهم لابد لهم أن يعملوها، وجملة: {هُمْ لَهَا عاملون} مقرّرة لما قبلها، أي واجب عليهم أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة لا محيص لهم عن ذلك.
ثم رجع سبحانه إلى وصف الكفار فقال: {حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب} حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هو الجملة الشرطية المذكورة، وهذه الجملة مبينة لما قبلها، والضمير في: {مترفيهم} راجع إلى من تقدّم ذكره من الكفار. والمراد بالمترفين: المتنعمين منهم، وهم الذين أمدهم الله بما تقدم ذكره من المال والبنين، أو المراد بهم الرؤساء منهم. والمراد بالعذاب هو: عذابهم بالسيف يوم بدر، أو بالجوع بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم حيث قال: «اللّهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وقيل: المراد بالعذاب: عذاب الآخرة؛ ورجح هذا بأن ما يقع منهم من الجؤار إنما يكون عند عذاب الآخرة، لأنه الاستغاثة بالله ولم يقع منهم ذلك يوم بدر ولا في سني الجوع، ويجاب عنه بأن الجؤار في اللغة: الصراخ والصياح. قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار. يقال: جأر، الثور يجأر أي صاح.
وقد وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عندما أن عذبوا بالسيف يوم بدر، وبالجوع في سني الجوع، وليس الجؤار ها هنا مقيد بالجؤار الذي هو التضرّع بالدعاء حتى يتم ما ذكره ذلك القائل، وجملة: {إذا هم يجأرون} جواب الشرط، وإذا هي الفجائية، والمعنى: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجئوا بالصراخ.
ثم أخبر سبحانه أنه يقال لهم حينئذٍ على جهة التبكيت: {لاَ تَجْئَرُواْ اليوم} فالقول مضمر، والجملة مسوقة لتبكيتهم وإقناطهم وقطع أطماعهم، وخصص سبحانه المترفين مع أن العذاب لاحق بهم جميعاً واقع على مترفيهم وغير مترفيهم؛ لبيان أنهم بعد النعمة التي كانوا فيها صاروا على حالة تخالفها وتباينها، فانتقلوا من النعيم التامّ إلى الشقاء الخالص، وخصّ اليوم بالذكر للتهويل، وجملة: {إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} تعليل للنهي عن الجؤار، والمعنى: إنكم من عذابنا لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقيل المعنى: إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب.
ثم عدّد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخاً لهم فقال: {قَدْ كَانَتْ ءَايَتِي تتلى عَلَيْكُمْ} أي في الدنيا؛ وهي آيات القرآن {فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ} أي ترجعون وراءكم، وأصل النكوص: أن يرجع القهقرى، ومنه قول الشاعر:
زعموا أنهم على سبل الحق ** وأنا نكص على الأعقاب

وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق، وقرأ عليّ بن أبي طالب: {على أدباركم} بدل: {على أعقابكم تَنكِصُونَ} بضم الكاف، وعلى أعقابكم متعلق ب {تنكصون} أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل تنكصون {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} الضمير في: {به} راجع إلى البيت العتيق، وقيل: للحرم، والذي سوّغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته والقيام به، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم وخدّامه.
وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين. وقيل: الضمير عائد إلى القرآن، والمعنى: أن سماعه يحدث لهم كبراً وطغياناً فلا يؤمنون به. قال ابن عطية: وهذا قول جيد.
وقال النحاس: القول الأوّل أولى وبينه بما ذكرنا. فعلى القول الأوّل يكون {به} متعلقاً ب {مستكبرين}، وعلى الثاني يكون متعلقاً ب {سامرا} لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه، والسامر كالحاضر في الإطلاق على الجمع. قال الواحدي: السامر: الجماعة يسمرون بالليل، أي يتحدّثون، ويجوز أن يتعلق {بِهِ} بقوله: {تَهْجُرُونَ} والهجر بالفتح: الهذيان، أي تهذون في شأن القرآن، ويجوز أن يكون من الهجر بالضم، وهو الفحش. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو حيوة: {سمرا} بضم السين وفتح الميم مشدّدة، وقرأ زيد بن علي وأبو رجاء {سمارا} ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، وانتصاب {سامرا} على الحال، إما من فاعل {تنكصون} أو من الضمير في {مستكبرين} وقيل: هو مصدر جاء على لفظ الفاعل، يقال: قوم سامر، ومنه قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

قال الراغب: ويقال: سامر وسمار، وسمر وسامرون. قرأ الجمهور: {تهجرون} بفتح التاء المثناة من فوق وضم الجيم. وقرأ نافع. وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أهجر، أي أفحش في منطقه. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشدّدة مضارع هجر بالتشديد. وقرأ ابن أبي عاصم كالجمهور إلا أنه بالياء التحتية، وفيه التفات.
وقد أخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه، وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، قول الله: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله؟ قال: «لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه».
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قالت عائشة: يا رسول الله، فذكر نحوه.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ} قال: يعطون ما أعطوا.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قال: يعملون خائفين.
وأخرج الفريابي وابن جرير عن ابن عمر {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} قال: الزكاة.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عائشة: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ} قالت: هم الذين يخشون الله ويطيعونه.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة: لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحبّ إليّ من حمر النعم، فقال لها ابن عباس: ما هي؟ قالت: {الذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ} وقد قدّمنا ذكر قراءتها ومعناها.
وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ} مقصوراً من المجيء.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن المنذر وابن أبي شيبة، وابن الأنباري في المصاحف، والدارقطني في الأفراد، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عبيد بن عمير؛ أنه سأل عائشة: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ}؟ قالت: أيتهما أحبّ إليك؟ قلت: والذي نفسي بيده لأحدهما أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها جميعاً، قالت: أيهما؟ قلت: {الذين يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ} فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كذلك، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرّف. وفي إسناده إسماعيل بن عليّ وهو ضعيف.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أولئك يسارعون فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سابقون} قال: سبقت لهم السعادة من الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هذا} يعني بالغمرة: الكفر والشك {وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك} يقول: أعمال سيئة دون الشرك {هُمْ لَهَا عاملون} قال: لابد لهم أن يعملوها.
وأخرج النسائي عنه: {حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب} قال: هم أهل بدر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {إذا هم يجأرون} قال: يستغيثون، وفي قوله: {فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ} قال: تدبرون، وفي قوله: {سامرا تَهْجُرُونَ} قال: تسمرون حول البيت وتقولون هجراً.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} قال: بحرم الله أنه لا يظهر عليهم فيه أحد.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {سامرا تَهْجُرُونَ} قال: كانت قريش يتحلقون حلقاً يتحدّثون حول البيت.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ} قال: كان المشركون يهجرون برسول الله صلى الله عليه وسلم في القول في سمرهم.
وأخرج النسائي وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ}.

.تفسير الآيات (68- 83):

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}
قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} بين سبحانه أن سبب إقدامهم على الكفر هو أحد هذه الأمور الأربعة: الأوّل: عدم التدبر في القرآن، فإنهم لو تدّبروا معانيه لظهر لهم صدقه وآمنوا به وبما فيه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدّر، أي فعلوا ما فعلوا فلم يتدبروا، والمراد بالقول: القرآن، ومثله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} [النساء: 82، محمد: 24]. والثاني قوله: {أم جاءهم مَّا لَمْ يَأْتِ ءابَاءهُمُ الأولين} أم هي المنقطعة، أي بل جاءهم من الكتاب ما لم يأتِ آباءهم الأوّلين، فكان ذلك سبباً لاستنكارهم للقرآن، والمقصود: تقرير أنه لم يأتِ آباءهم الأوّلين رسول؛ فلذلك أنكروه، ومثله قوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} [ياس: 6]. وقيل: إنه أتى آباءهم الأقدمين رسل أرسلهم الله إليهم. كما هي سنّة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى عباده، فقد عرف هؤلاء ذلك، فكيف كذبوا هذا القرآن؟ وقيل: المعنى: أم جاءهم من الأمن من عذاب الله ما لم يأتِ آباءهم الأوّلين كإسماعيل ومن بعده. والثالث: قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدّم إلى التوبيخ بوجه آخر، أي بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك. والرابع: قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} وهذا أيضاً انتقال من توبيخ إلى توبيخ، أي بل أتقولون به جنة، أي جنون، مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلاً، ولكنه جاء بما يخالف هواهم فدفعوه وجحدوه تعصباً وحمية. ثم أضرب سبحانه عن ذلك كله فقال: {بَلْ جَاءهُمْ بالحق} أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول، بل جاءهم ملتبساً بالحق، والحق هو: الدين القويم: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون} لما جبلوا عليه من التعصب، والانحراف عن الصواب، والبعد عن الحق، فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر، وظاهر النظم أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفاً من الكارهين له.
وجملة: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ} مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزماً للفساد العظيم، وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية، وهو معنى قوله: {لَفَسَدَتِ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسديّ: الحق: هو الله، والمعنى: لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكاً لفسدت السموات والأرض.
وقال الفراء والزجاج: يجوز أن يكون المراد بالحق: القرآن، أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم. وقيل: المعنى: ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة، ومثل ذلك قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقد ذهب إلى القول الأوّل الأكثرون، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو: الحق المذكور قبله في قوله: {بَلْ جَاءهُمْ بالحق} ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك: بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله، والمعنى: ولو ورد الحق متابعاً لأهوائهم موافقاً لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد، والمراد بقوله: {وَمَن فِيهِنَّ} من في السموات والأرض من المخلوقات.
وقرأ ابن مسعود: {وما بينهما} وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع؛ لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدوا فسدوا.
ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال: {بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ} والمراد بالذكر هنا القرآن، أي بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم، ومثله قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. والمعنى: بل آتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه، ويقبلوا عليه.
وقال قتادة: المعنى: بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم. وقيل: المعنى بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر: {أتيتهم} بتاء التكلم. وقرأ أبو حيوة والجحدري: {أتيتهم} بتاء الخطاب، أي أتيتهم يا محمد. وقرأ عيسى بن عمر: {بذكراهم}. وقرأ قتادة: {نذكرهم} بالنون والتشديد من التذكير، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال. وقيل: الذكر هو: الوعظ والتحذير {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفتون إليه بحال من الأحوال، وفي هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره.
ثم بين سبحانه أن دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم ليست مشبوهة بأطماع الدنيا فقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} و{أم} هي المنقطعة، والمعنى: أم يزعمون أنك تسألهم خرجاً تأخذه على الرسالة، والخرج: الأجر والجعل، فتركوا الإيمان بك وبما جئت به لأجل ذلك، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم {فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ} أي فرزق ربك الذي يرزقك في الدنيا، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر. قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى ابن وثاب: {أم تسألهم خراجاً}، وقرأ الباقون: {خرجا} وكلهم قرؤوا {فَخَرَاجُ} إلا ابن عامر وأبا حيوة فإنهما قرآ: {فخرج} بغير ألف. والخرج: هو الذي يكون مقابلاً للدخل، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك: خرجاً، والخراج غالب في الضريبة على الأرض. قال المبرد: الخرج: المصدر، والخراج: الاسم. قال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به.
وروي عنه أنه قال: الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خير.
ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ونفى عنه أضداد ذلك قال: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة، والصراط في اللغة: الطريق، فسمي الدين طريقاً لأنها تؤدّي إليه. ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك فقال: {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لناكبون} يقال: نكب عن الطريق ينكب نكوباً: إذا عدل عنه ومال إلى غيره، والنكوب والنكب: العدول والميل، ومنه النكباء للريح بين ريحين، سميت بذلك لعدولها عن المهابّ، و{عن الصراط} متعلق ب {ناكبون}، والمعنى: أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط أو جنس الصراط لعادلون عنه.
ثم بين سبحانه أنهم مصرّون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال: {وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ} أي من قحط وجدب {لَّلَجُّواْ فِي طغيانهم} أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم {يَعْمَهُونَ} يتردّدون ويتذبذبون ويخبطون. وأصل اللجاج: التمادي في العناد، ومنه اللجة بالفتح لتردّد الصوت، ولجة البحر تردّد أمواجه، ولجة الليل تردد ظلامه. وقيل: المعنى: لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم.
{وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب} جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. والعذاب قيل: هو الجوع الذي أصابهم في سني القحط. وقيل: المرض. وقيل: القتل يوم بدر، واختاره الزجاج. وقيل: الموت. وقيل: المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية {فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ} أي ما خضعوا ولا تذللوا، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرّد على الله والانهماك في معاصيه {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم، ولا يدعونه لرفع ذلك {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قيل: هو عذاب الآخرة. وقيل: قتلهم يوم بدر بالسيف. وقيل: القحط الذي أصابهم. وقيل: فتح مكة {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي: متحيرون، لا يدرون ما يصنعون. والإبلاس: التحير والإياس من كل خير. وقرأ السلمي: {مبلسون} بفتح اللام من أبلسه، أي أدخله في الإبلاس.
وقد تقدّم في الأنعام.
{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والابصار} امتنّ عليهم ببعض النعم التي أعطاهم، وهي نعمة السمع والبصر {والأفئدة} فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشيء من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق، ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي شكراً قليلاً حقيراً غير معتدّ به باعتبار تلك النعم الجليلة.
وقيل: المعنى: أنهم لا يشكرونه ألبتة، لا أن لهم شكراً قليلاً. كما يقال لجاحد النعمة: ما أقلّ شكره، أي: لا يشكره، ومثل هذه الآية قوله: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ} [الأحقاف: 26]. {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ في الأرض} أي: بثكم فيها كما تبث الحبوب لتنبت وقد تقدّم تحقيقه {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرّقكم.
{وَهُوَ الذي يُحي وَيُمِيتُ} على جهة الانفراد والاستقلال، وفي هذا تذكير لنعمة الحياة، وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة {وَلَهُ اختلاف اليل والنهار} قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض. وقيل: اختلافهما: نقصان أحدهما وزيادة الآخر. وقيل: تكرّرها يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة {أَفلاَ تعقلون} كنه قدرته وتتفكرون في ذلك. ثم بين سبحانه أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبنيّ على مجرد الاستبعاد فقال: {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم. ثم بين ما قاله الأوّلون فقال: {قَالُواْ أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} فهذا مجرّد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشيء من الشبه، ثم كملوا ذلك القول بقولهم: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ} أي وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدّقه كما لم يصدّقه من قبلنا، ثم صرّحوا بالتكذيب وفرّوا إلى مجرّد الزعم الباطل فقالوا: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة، والأساطير: الأباطيل والترهات والكذب.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} قال: عرفوه ولكنهم حسدوه. وفي قوله: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ} قال: الحق: الله عزّ وجلّ.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ} قال: بينا لهم، وأخرجوا عنه في قوله: {عَنِ الصراط لناكبون} قال: عن الحقّ لحائدون.
وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا العلهز، يعني الوبر بالدم، فأنزل الله: {وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}، وأصل الحديث في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال: «اللّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» الحديث.
وأخرج ابن جرير وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: أن ابن أثال الحنفي لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو أسير فخلى سبيله لحق باليمامة.
فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أليس تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: «بلى». قال: فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله: {وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب} الآية.
وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} قال: أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا، ولو خضعوا لله لاستجاب لهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال: قد مضى، كان يوم بدر.